من آداب الإنصاف عدم التسرع في إطلاق الأحكام، والحرص على تحري الدقة وصولاً للحقيقة كاملة، حتى لا تقع في ظلم أخيك الإنسان، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، حيث يتناول الكثير من الناس القصة التي حدثت بمدينة القطن، في حضرموت اليمنية قبل أكثر من 18 سنة، إذ يقول الراوي بعد هطول الأمطار الغزيرة في المدينة، ذهب شابان إلى إحدى مغاسل السيارات، لغسيل الشاحنة التي يمتلكانها من آثار الوحل والطين.
وبعد وصولهما إلى أقرب محطة، قام أحد العمال بغسل الشاحنة وتنظيفها على أفضل ما يكون، ولكن بعد الانتهاء من غسلها وتنظيفها اتهم الشابان ذلك العامل المسكين ظلمًا وبهتانًا بسرقة مبلغ 10 آلاف ريال من السيارة، وبالطبع أنكر العامل البسيط هذه الحادثة، ما أدى إلى استدعاء صاحب المغسلة، الذي بدوره خوّن العامل ولم يقف معه، وخيّره بين أمرين: إما استدعاء الشرطة وطرده من العمل أو إعادة ذلك المبلغ.
حاول العامل المسكين بقدر المستطاع دفع ذلك الاتهام الباطل عنه، لكن دون فائدة، وفكر مليّا بخيار صاحب المغسلة الأول إذا تم استدعاء الشرطة فسوف يحجز أيامًا طويلة على ذمة القضية ولديه أطفال ووالدته مريضة وكبيرة بالسن وهو المُعيل الوحيد لأسرته، كما فكر بالخيار الثاني وهو دفع ذلك المبلغ من جيبه واتقاء ذلك الشر المستطير، وتوكيل أمره لله رب العالمين، فقرر أن يذهب لبيته ويحاول تدبير المبلغ ليدفع الشرّ عنه وعن أسرته ومستقبله وسمعته، فأحضر المبلغ وسلمه إلى الشابين الكاذبين أمام صاحب العمل وقال: «وكلت أمري للملك القهار» وانصرف الشابان فرحان بنجاح عملية الاحتيال.
ولم يتوان صاحب العمل بعد ذهاب الشابين في طرد العامل من وظيفته متحجّجًا بأنه لا يريد أن يشوّه سمعة مغسلته بوجود لص مثله، فبكى العامل كثيرًا وانصرف لمنزله بعد أن حاسبه صاحب العمل وأعطاه بقية حسابه، ولكن لم تنته القصة هنا، بل كانت تلك بدايتها وبداية عدالة رب السماء والأرض وانتقامه من الشابين الظالمين، فبعد تسلّمهما المبلغ الحرام من العامل المسكين ذهبا إلى أحد الأسواق، وتسوّقا مرورًا بأحد المطاعم لشراء وجبة الغداء والذهاب لأحد الأماكن الطبيعية لتناول ذلك الغداء والتخطيط لعملية نصب أخرى!!
قام الشابان بإيقاف سيارتهما بجانب جرف جبلي لتناول الغداء تحت ظل ذلك الجرف، ولكن القدر كان لهما بالمرصاد، وعدالة رب العالمين قد نزلت عليهما بعد دعوة المظلوم، فتدحرجت صخرة عظيمة وضخمة من فوق الجرف الجبلي واستقرت فوق السيارة.. سبحان الله ؟!، وعلى الفور هرعت الجهات المختصة إلى مكان الحادث وتم إخراجهما بصعوبة، فالأول توفي في الحال والثاني كان في حالة حرجة وهو في سكرات الموت، قال: (ظلمناه وهذه عدالة رب السماء)، وأصبحت المنطقة التي وقعت فيها الحادثة تعرف باسم «صخرة المظلوم» وهي الآن مزار لالتقاط الصور التذكارية لزوار منطقة القطن.
العبرة من القصة التي تبدو حقيقية وواقعية «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، فما تحبه لنفسك يقتضي الإنصاف أن تحبه لغيرك، وما تكرهه لنفسك يقتضي الإنصاف أيضًا أن تكرهه للآخرين، فالإنصاف واجب على الجميع لا يُستثنى من القيام به أحد، وواجب للجميع فلا يُخرج منه أحد، فحريّ بالمؤمن أن يتخلق بالإنصاف فإنه من أجمل الأخلاق، وأن ينصف غيره من نفسه، كما ينصف نفسه من غيره.. ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل العدل والإنصاف، وأن يجنبنا البغي والظلم والاعتداء، إنه سميع مجيب.
والله ولي التوفيق.
أستاذ الهيدروجيولوجيا والبيئة بجامعة قطر